حزب البعث العربي الاشتراكي

logo

header-ad
أحدث الأخبار

الأهداف الحقيقيّة لضغوط واشنطن على أنقرة في ملفّ غاز المتوسط

صحيح أنّ الموقف الأوروبي الأخير الذي قادته فرنسا بعنف ضد تركيا في ملف التنقيب عن الغاز شرقي المتوسط كان فعالاً وحازماً لناحية التهديد بفرض عقوبات على الأخيرة، بعد أن اتفقت 7 دول متوسطية في قمة كورسيكا على ذلك، الأمر الذي كان سيعدّ صعباً بالنسبة إلى أنقرة في ظلّ وضعها الاقتصادي الصعب حالياً.

 

لكن تركيا لم تتراجع بسبب تلك التهديدات، ولم تسحب سفينة التنقيب من المياه الاقتصادية الخالصة لكلّ من اليونان وقبرص إلا بعد زيارة وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو إلى قبرص، وإعلانه صراحة دعم اليونان وقبرص في موضوع الخلاف البحري بين الدول المذكورة، وبعد تصريحاته العالية السقف والحازمة ضد أنقرة.

 

من ناحية أخرى، كان لافتاً أيضاً الضغط الأميركي غير المسبوق على أنقرة في هذا الملف بالتحديد، في توقيته ومستواه وجديته، إذ تفاجأ به كثيرون، ومنهم أنقرة أيضاً، وذلك بعد أن عوَّدتنا واشنطن خلال السنوات الأخيرة، وفي أكثر من ملف، على تسهيل وتمرير أغلب مناورات وملفات التعدي والتوسع التركي في المنطقة، إذ تصوب على أنقرة في الإعلام والدبلوماسية، ولكن في الميدان وعلى الأرض كانت تمرر وتغطي لها أغلب اعتداءاتها.

 

 في العراق مثلاً، تشرع تركيا لنفسها الدخول براً وجواً إلى شماله ساعة تريد، على الرغم من الوجود الأميركي الفعال فيه. وفي سورية، حدث ولا حرج عن الاعتداءات التركية شمالاً وشرقاً، وبرضا ورعاية أميركية مؤكدة. وفي ليبيا، تحدّت أنقرة عشرات الدول المتوسطية والأوروبية والأفريقية، إضافة إلى تحدّيها روسيا أيضاً، وبقيت صامدة فيها، ونشرت قواعد برية وبحرية، ونقلت عشرات الآلاف من الإرهابيين من سوريا، خدمة لمشروعها في دعم حكومة الوفاق، بعد أن عقدت مع الأخيرة اتفاقاً أمنياً واقتصادياً مشبوهاً، تفوح منه بشكل مفضوح رائحة الاستفادة من ثروات ليبيا، وكل ذلك برعاية وعناية وغطاء أميركي لا لبس فيه.

 

 لماذا إذاً ضغطت واشنطن مؤخراً على أنقرة في ملفّ التنقيب على الغاز شرق المتوسط؟ ولماذا أظهرت ضدها هذا الحزم والجدية، إلى درجة أجبرت الرئيس إردوغان على التراجع وسحب سفينة التنقيب، بعد أن كان رافضاً ذلك؟ وما أسباب هذه القسوة الأميركية غير المسبوقة على تركيا؟

 

مبدئياً، يمكن استنتاج الجدية الأميركية والرسائل الحازمة تجاه أنقرة من خلال عدة إجراءات ومواقف تمثلت بالتالي:

أولاً: جاء القرار الأميركي برفع حظر استيراد الأسلحة عن قبرص، والذي يبلغ عمره حوالى 30 سنة، ليشكّل صدمة لتركيا لم تكن تنتظرها، إضافة إلى قرار أميركي بوضع أكثر من قاعدة عسكرية في قبرص، يقول الأميركيون إنها بهدف مراقبة شرقي المتوسط وجنوب واجهة دول الناتو على المتوسط، بعد التمدد والانتشار الروسي الأخير في سورية وفي المياه الدافئة، ليتوّج ذلك بمناورات عسكرية مشتركة أميركية وقبرصية على مقربة من الحدود اليونانية التركية. وقد رأت تركيا في كلّ ذلك حماية غير مباشرة ودعماً قوياً لقبرص.

ثانياً: جاءت صفقة القاذفات الفرنسية "رافال" مع اليونان (18 قاذفة)، والتي لا يمكن أن تتم من دون موافقة أميركية، لتضع تركيا في موقف المستهدف الأول منها، إذ يعتبر هذا النوع  من القاذفات الأحدث عالمياً، والأقرب (بدرجة أخفّ قليلاً) في المميزات والقدرات إلى القاذفة "أف 35" الأميركية التي حرمت منها تركيا.

 

هذا من الناحية العسكرية المباشرة، أما في السياسة والدبلوماسية، فقد كان الموقف الأميركي قاسياً، إذ صوب بشكل واضح على تمادي تركيا شرقي المتوسط وتعرضها لحقوق جيرانها، وعلى مخالفتها الواضحة للقانون الدولي بشكل واضح، في الوقت الذي لم يجد الأميركيون يوماً في اعتداءات تركيا على العراق وسورية وليبيا أي مخالفة للقانون الدولي.

 

طبعاً، لا يمكن أن يكون سبب الضغط الأميركي على أنقرة أنها تريد حماية حقوق دول الاتحاد الأوروبي، فواشنطن لم تكن يوماً مهتمة بحلّ مشكلة تركيا مع الاتحاد الأوروبي، ولطالما كانت تجد في إبقاء التوتر التركي الأوروبي مصلحةً أميركية، بهدف إبقاء كل من تلك الدول تحت رحمة نفوذها وقوتها الدبلوماسية على الأقل.

 

أيضاً، ليس من مصلحة واشنطن حالياً الضغط على تركيا، في وقت تتكوّن نواة اشتباك واسع بين روسيا والناتو، على خلفية اتهام بعض دوله موسكو بتسميم المعارض الروسي نافالني، وما تحضّر له واشنطن لاستغلال الموضوع في سبيل وقف مشروع خط غاز سيل الشمال بين ألمانيا وروسيا، الأمر الذي يتطلَّب تماسكاً بين دول الناتو، وتركيا أساسية في هذا الحلف، وموقفها ومكانتها مؤثران في هذا الاشتباك.

 

 يبقى 3 أسباب تدفع واشنطن إلى الضغط القاسي والجدي على تركيا، مع إعطاء السبب الثالث والأخير الأفضلية ليكون الأهم في ما بينها، وهي:

 

أولاً: موقف أنقرة من روسيا وما يظهر أو يستنتج من مؤشرات تدل على تقارب بين الدولتين، على خلفيات اقتصادية وسياسية وعسكرية (صفقات شراء تركيا لأسلحة روسية)، ستترجم حكماً في ما لو تطوّرت إلى علاقة استراتيجية لن يكون من السهل تفكيكها لاحقاً، الأمر الذي يستوجب على واشنطن أن تضغط على أنقرة لإبعاد إمكانية تطور هذه العلاقة.

 

ثانياً: العلاقة الجيدة بين إيران وتركيا، فما تقدّمه تركيا للجمهورية الإسلامية الإيرانية في الموضوع الاقتصادي على الأقل، سيكون حكماً مساعداً للأخيرة أمام الضغوط والعقوبات الأميركية، الأمر الذي يقوّض إلى حد ما مناورة واشنطن لإجبار إيران على الرضوخ.

 

ثالثاً: موقف أنقرة المعارض للتطبيع مع "إسرائيل". قد يكون هذا السبب أهم من العلاقة بين روسيا وتركيا أو بين تركيا وإيران، إذ تجد واشنطن اليوم أن هناك أفضلية لإنجاح ملف التطبيع مع "إسرائيل" بين أغلب الملفات في المنطقة، والعالم ربما، ولتركيا - في نظر واشنطن - نفوذ غير بسيط في المجتمع الإسلامي، وهي تمتلك قدرة مؤثرة في توجهات هذا المجتمع، الأمر الذي يستدعي ضغطاً على أنقرة لتغيير موقفها ودعم التطبيع.

 

الميادين: شارل أبي نادر

اضافة تعليق