حزب البعث العربي الاشتراكي

logo

header-ad

“طوفان الأقصى”.. عودة الصراع إلى مقدماته التاريخية

كان الأمر أشبه بلعبة فيديو، ولكن اللعبة تجسدت حقيقة على الأرض!! مظلات تحلق في السماء مدفوعة بدراجات مروحية تكاد تكون للاستخدام المنزلي.. فتيان يتقافزون كالفراش الملون قبل أن يهبطوا في قلب فلسطين، أرضهم وأرض أجدادهم التي احتلت قبل 75 عاماً، وتسمى اليوم مستوطنات يهودية.. طيور خريف مهاجرة يخنقها الشوق إلى «وطن» لم تعرفه إلا في المخيلة، وشعور بالانتماء إلى أرض لم تراها إلا في الحلم، ولا يُسمح لها بزيارتها إلا بتصاريح لا يمكن الحصول عليها إلاّ من المحتل.. وجيلاً بعد جيل، ولاجئاُ بعد لاجئ، وشهيداً إثر شهيد، تبقى الهوية معلقة إلى الأبد بأرض لا تزال محظورة، وحنين لا يكف عن الوميض.

 

مفاجأة؟ صدمة؟ ذهول؟ فشل استخباراتي؟ كلمات تغدو مجرد هراء أمام ذلك الشعور بالحرية للمرة الأولى منذ أجيال، وأول عناق لأرض الآباء والأجداد منذ نكبة 48.. حلم بين الممكن والإعجاز، وبين الواقع واللامعقول.. مئات من قديسين أطهار لا يمكنك أن تجزم إن كانوا يصعدون إلى الغيم أم أنهم يذوبون في ضوء الصبح، أحدثوا الضربة التي تدحرجت من السور الشائك لـ «غلاف غزة»، ولم تتوقف إلا في واشنطن وبروكسل ولندن، وفي الحواضر الأبراهامية، وفي العواصم العربية والإسلامية، من الدار البيضاء حتى جاكرتا، وفي شوارع المدن الرئيسية في العالم حيث سيتظاهر المنددون بالأبارتيد الإسرائيلي.. لقد اجتمعت اتفاقيات أبراهام، مع الانحياز الغربي الرهيب، والإصرار على عدم الاعتراف بأية حقوق للفلسطينيين، لكي تصل بالأوضاع إلى إلى هذا الحد. ولربما شكلت خطوات «التطبيع»، المعلنة وغير المعلنة، نقطة التحول التي رسخت شعوراً عارماً بأن هناك من سيقفز فوق الحقوق، ولربما من سيطعن في الظهر.. غير أنه لا مجال للاستسلام، ولا مجال لتحمل المزيد، في وقت تواصل حكومة الضم والسلب الصهيونية ارتكاب المذابح اليومية وهدم البيوت ونهب الأراضي والزج بالفلسطينيين في المعتقلات، وتجريدهم من إنسانيتهم، في عالم يتجاهل تماماً وجودهم كشعب، وفي زمن يستمر الإعلام الغربي بتصوير «إسرائيل» على أنها ضحية تحتاج إلى «الدفاع» عن نفسها، ويعلن الاتحاد الأوروبي بكل صفاقة: «نحن مع إسرائيل بغض النظر عن التفاصيل»، أما إدارة بايدن فتنخرط «بكل معنى الكلمة» في الدعم المباشر والعملي للنهج الإسرائيلي، فلديها الكثير مما تخسره، بفعل قوة اللوبي الصهيوني، خاصة وسط الحملة الانتخابية المستعرة في صفوف كل من الديموقراطيين والجمهوريين.

 

ستنتهي عملية «طوفان الأقصى» بالتأكيد، ولربما لن يتوقف التطبيع، ولربما يبذل نتنياهو كل ما بوسعه للتحرك سريعاً نحو حرب شاملة على القطاع، أو يستعد لخوض حرب يجر من خلالها الإدارة الأمريكية إلى بقاء طويل الأمد في المنطقة، ولربما تشكل الانقسامات السياسية العميقة داخل إسرائيل فرصة له لإشعال مواجهة إقليمية، فهناك شعور بأن إسرائيل «لم تكن أكثر انقساماً وضعفاً وتمزقاً مما هي عليه اليوم».. إن كل ذلك يغري بـ «الانغماس» في مغامرة انتحارية، من أي نوع، لكن جولات المواجهة المتتالية تؤكد أن الفجوة العسكرية والعملياتية بين المقاومة وجيش الاحتلال إنما تنغلق بالتدريج، وأن فائض القوة ينطوي في كثير من الأحيان على مفاعيل عكسية.. لقد عادت عملية «طوفان الأقصى» بالصراع إلى مقدماته التاريخية قبل أكثر من سبعة عقود، وأكدت أنه يمكن الوصول إلى الموقف الذي تجد فيه إسرائيل نفسها عاجزة تماماً عن التحكم بقدراتها القتالية، بل وعن الإمساك بقرارها المصيري؛ فـ «إسرائيل» اليوم لا تستطيع الاستمرار بالاحتلال إلا جراء الدعم المالي والعسكري الهائل الذي تستمده من الغرب، وهي ستختفي من الوجود ما إن يتوقف هذا الدعم.

 

طوال عقود، منح الغرب إسرائيل موافقته الضمنية على محرقة جديدة يستيقظ عليها الفلسطينيون كل يوم، وتم شطب القانون الدولي من الصراع العربي الإسرائيلي برمته. ولكن، في مرحلتنا هذه، ومع نهوض عالم التعددية القطبية، وانهيار الدولار، وتراجع الهيمنة الأمريكية العالمية، وتململ دافعي الضرائب الأمريكيين، وفي الدوامة المتصاعدة التي من شأنها أن تهدد استقرار المنطقة لسنوات جديدة قادمة، وهو ما تخشاه إدارة بايدن حالياً بالتأكيد، يفتش نتنياهو عن البقاء من خلال استعجال «بناء صداقات» جديدة، ويجهد لـ «التطبيع»، لأنه يدرك في الصميم أن الزمن لا يلعب لصالحه، وأنه في عالم التعددية القطبية لن يكون هناك مكان لـ «إسرائيل».

اضافة تعليق